قصة أصحاب السبت في القرآن

أصحاب السبت في سورة البقرة: تحذير إلهي من الانحراف عن الطاعة

تمثل قصة أصحاب السبت إحدى القصص القرآنية البارزة التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ومنها سورة البقرة، حيث جاءت العبرة والعظة من قوم أغراهم الطمع وخدعهم الهوى فخالفوا أمر الله وابتكروا الحيل للالتفاف على الشرع، فكان جزاؤهم أن مُسخوا، ليكونوا عبرة لمن يعتبر. في هذا المقال الطويل الموسع، نغوص في تفاصيل هذه القصة كما وردت في سورة البقرة، وسياقها، ومعانيها، ودلالاتها التربوية والتشريعية، إضافة إلى أثرها في بناء الوعي الديني والاجتماعي، مع تتبع لأقوال المفسرين وما أشار إليه العلماء في شأنها.

أولًا: موضع القصة في سورة البقرة

جاء ذكر قصة أصحاب السبت في قوله تعالى:

﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَوْا۟ مِنكُمْ فِى ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا۟ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ﴾

(البقرة: 65)

الآية جاءت ضمن سياق طويل من آيات تتحدث عن بني إسرائيل، وما وقعوا فيه من مخالفات وجحود لنعم الله، لتكون هذه الحادثة واحدة من سلسلة المواقف التي تستعرض انحرافهم عن منهج الله رغم المعجزات والنعم التي أنعمها الله عليهم.

ثانيًا: السياق التاريخي والاجتماعي لقصة أصحاب السبت

قصة أصحاب السبت ارتبطت بجماعة من بني إسرائيل كانوا يسكنون على شاطئ البحر، في قرية يُقال إنها “أيلة” الواقعة على خليج العقبة. وقد أمرهم الله أن يجعلوا يوم السبت مخصصًا للعبادة والتفرغ لطاعة الله، فكان ذلك تكريمًا لهم على أن يتركوا فيه أعمال الدنيا، ومنها الصيد. ولكنهم خالفوا هذا الأمر عندما وجدوا أن الحيتان لا تأتي إلى الشاطئ إلا يوم السبت، فاحتالوا على الشرع.

جاء في الآية القرآنية الكريمة تلميح للحادثة، بينما ورد تفصيلها في مواضع أخرى مثل سورة الأعراف:

﴿وَسْـَٔلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَـٰنُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًۭا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا۟ يَفْسُقُونَ﴾

(الأعراف: 163)

ثالثًا: تحليل لمضمون القصة في سورة البقرة

جاء ذكر القصة بصيغة التذكير ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾ لتكون بمثابة إعادة استحضار لما يعرفه بنو إسرائيل عن أنفسهم وتاريخهم. وهذا الأسلوب البلاغي يهدف إلى إثارة الوجدان وتحفيز الضمير، ويأتي في سياق إثبات تكرار العصيان والانحراف عن التكاليف الربانية في سلوكهم الجمعي.

أما قوله ﴿ٱعْتَدَوْا۟ مِنكُمْ فِى ٱلسَّبْتِ﴾ فالمقصود أنهم تجاوزوا حدود الله، بأنهم لم يلتزموا بما فُرض عليهم من حرمة العمل يوم السبت، فلجؤوا إلى الحيلة والخداع، فكان العقاب من جنس العمل.

ثم ختمت الآية بقوله تعالى ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا۟ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ﴾، وهو عقابٌ رباني غاية في الشدة، حيث مسخهم الله إلى قردة ذليلة محتقرة.

رابعًا: الحيلة في الدين: مضمون القصة وجوهر العقوبة

من أهم ما تكشفه قصة أصحاب السبت هو تحذير القرآن من مسلك التحايل على أوامر الله. فقد وضع هؤلاء القوم الشباك يوم الجمعة ليقع فيها السمك يوم السبت، ثم يجمعونه يوم الأحد، مدعين أنهم لم يصطادوا يوم السبت، فحسبوا أنفسهم ناجين من المخالفة بينما قلوبهم مملوءة بالتمرد على الحكم الإلهي.

في هذا درس عظيم، أن النوايا إذا خالفت ظاهر العمل، فإنها تُدين صاحبها عند الله، خاصة إذا كان القصد هو المكر بالدين.

خامسًا: تفسير المسخ: قردة خاسئين

المسخ الذي وقع لهم جاء على هيئة تحويلهم إلى قردة، وقد اختلف العلماء هل كان مسخًا حسيًا أم معنويًا، فذهب جمهور المفسرين ومنهم ابن كثير والطبري إلى أن المسخ كان حقيقيًا، فجعلهم الله قردة حقيقيين يعيشون أياما ثم ماتوا دون أن يتناسلوا، لئلا يستمر نسل من القردة يكون من أصل بني آدم.

أما قوله ﴿خَاسِـِٔينَ﴾، فتعني الأذلاء المحتقرين، فكان العقاب جسديًا ومعنويًا معًا، لما فيه من إذلال عظيم لمن عصى أمر الله وتحايل عليه.

سادسًا: انقسام القوم إلى ثلاث فئات

تشير بعض الروايات والتفاسير إلى أن قوم القرية انقسموا إلى ثلاث فئات:

1. الفئة الأولى: هي التي ارتكبت الفعل واحتالت على الشرع.

2. الفئة الثانية: سكتت ولم تنكر.

3. الفئة الثالثة: أنكرت الفعل ونهت عنه.

وقد وردت تفاصيل ذلك في سورة الأعراف، حيث بينت أن الناجين كانوا من الذين نهوا عن المنكر، وابتعدوا عن الفتنة، أما الساكتون فقد كان في شأنهم خلاف، ولكن كثير من المفسرين قالوا إن العقوبة شملت الفئة الأولى فقط.

سابعًا: الدلالات التربوية في القصة

قصة أصحاب السبت تحمل دروسًا عظيمة منها:

• خطر التحايل على الشرع: فمهما بدت الحيلة ذكية أو ماكرة، فإن الله مطلع على خفايا القلوب، والعبرة بالنية والمقصد، لا بالمظهر الظاهري للفعل.

• وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لأن الفئة التي نجت من العذاب كانت هي التي أنكرت الفعل ونصحت القوم.

• التمادي في المعصية يؤدي إلى الهلاك: حيث لم يكونوا يصطادون صيدًا عاديًا، بل كرروا فعلهم، وأقاموا على الحيلة، حتى استحقوا المسخ.

• عقوبة المعصية قد تكون شديدة: كما في هذا المسخ الذي لا مثيل له في العقوبات التي ذكرت في القرآن.

ثامنًا: المقارنة بين قصة أصحاب السبت وواقع المسلمين

إن قصة أصحاب السبت، رغم وقوعها في بني إسرائيل، إلا أنها موعظة للمسلمين إلى يوم القيامة، لأن سلوك التحايل على الدين لا يختص بأمة دون أخرى. فقد يظهر في أشكال متعددة:

• تلاعب في المعاملات المالية المحرمة باسم الحيل الشرعية.

• أداء العبادات بشكل صوري دون إخلاص أو نية صحيحة.

• التحايل على الصيام أو الزكاة أو الحجاب تحت ذرائع دنيوية.

ولهذا، فإن تحذير القرآن لم يكن لبني إسرائيل فقط، بل لكل من يسلك سبيلهم من الأمم الأخرى، ولذلك نجد أن الله قال في نهاية الآية التي تتحدث عن المسخ في سورة الأعراف:

﴿فَجَعَلْنَـٰهَا نَكَـٰلًۭا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةًۭ لِّلْمُتَّقِينَ﴾

تاسعًا: الجدول التحليلي للقصة

عاشرًا: موقف السلف والمفسرين من القصة

تناول السلف والمفسرون هذه القصة بعمق، وحرصوا على بيان مقصدها التحذيري. فقد قال الإمام ابن كثير: “المسخ كان عقوبة عظيمة على مخالفة عظيمة، فجمع الله لهم بين التشويه الحسي والمهانة النفسية، ليعلموا أن من يحتال على الشرع لن يفلح.”

أما القرطبي فقد ركز على دلالة القصة في باب النهي عن الحيلة، وقال: “فيها دليل على أن الحيلة في إسقاط الفرائض والمعاصي لا تنفع عند الله.”

الحادي عشر: العبرة المتجددة في كل زمان

قصة أصحاب السبت لا تنتمي فقط إلى زمن بني إسرائيل، بل هي مرآة لكل من يمارس الدين بالظواهر ويتحايل على الأحكام بباطنه، ولهذا كان إدراجها في سورة البقرة التي تُعد بمثابة دستور تشريعي إيماني للأمة، لأن القرآن أراد أن يثبت في أذهان المسلمين أن مسلك بني إسرائيل لا يجوز أن يُحتذى، وأنهم إن وقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك، فلا ينتظروا إلا عاقبة مماثلة في الدنيا أو في الآخرة.

المصادر:

1. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم

2. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن